الاثنين، 23 مارس 2015

يحدث أن نكبر..

الهواجس...كم تمتليء بها الحياة(عدت سنة)...و 9 أشهر (فقط؟!) مذ غادرت اليمن للإستقرار و التعرف على هذه البلدة الطيبُ أهلها (السودان)...كم فكرت بعد وصولي إلى هنا أن اكتب عن صنعاء التي تركتها بعافية مهلهلة و الحلم بأن تصُبح أكثر اماناً هو الرجاء و المطلب...لم أظن أنني يوماً سأترك قلمي (كيبوردي بالأصح) ...لأنشغل بالواقع هنا ...

كنت أظن و بعض الظن يُولد من حجم الأماني في قلوبنا, بأنني سأحكي كم كَبُرت أمام عيني صنعاء...و كم تغيرت الملامح و الأسواق و كم كانت ذات يوم تذخر بمجموعات كبيرة من الأساتذة السودانيين-زمن الإعارة- (من منتصف التسعينات إلى بداية الألفينات)..و ما رافق ذلك من قصص و حكايات كثيرة ..بعضها لا يُمحى و بعضها في الذاكرة يأتي به الحنين و الروائح و بعضاً من نوتات موسيقية او ....و للحنين اشكاله.

كان قلبي مُحتاراً ما بين ذكريات 13 عاماً كاملة, كانت حياتي و (صارت) حياة ماضية, و بين حاضر جميل (في بعض الأوقات) و مستقبل رسمته في عقلي ووضعته في قلبي...ليصبح بعد فترة من قضاء بعض الوقت هنا...(مبني للمجهول)!

في كل مكان-بالتقريب- ذهبت إليه و علم اهله بأنني كنت خارج هذا البلد الميمون - سواء بتعريف من احد الحضور او بعد وصف منطقة معينة في السودان, يستبينون بعدها جهلي بهذا البلد - كان السؤال الذي يُطرح هو (الجابك هنا شنو؟)...ثم تقضي دقائق يُحلِل فيها صاحب السؤال الخطأ الذي وقعت فيه بقدومي إلى هنا...ثم يسألني في أحسن الأحوال عن بعض طباع اليمن و كيف كانت عشرتهم و ما يسمعونه في الأخبار عن بعض عاداتهم و تقاليدهم...الخ .

كنت سعيدة في الأيام الأولى سعادة لا توصف - و ليس الوصف ابتذالاً- فقد كانت مقابلة الأهل و (شاي المُغرب) اجمل في عقلي القاصر و المحدود فكرياً أن اتخطى السودان لأكثر من ذلك الوصف...لا أدري لماذا؟!
و إذا بها الأيام تمهلني بعضُ وقتِ لأتعرف أكثر على السودان بعيداً عن -السوشيال ميديا- و بعيداً عن قناة بلونايل و خاصة - بلونايل- اف ام و التي اعتدنا في ايام الجُمعات أن نتابعها صباحاً بشغف كبير..و خاصة فقرة الصُحف السودانية الصادرة صباح اليوم...فقد كان ابي من عُشاق قراءة الصحف و احسبه لا يزال كذلك - رده لنا الله من غربته سالماً و أخي.

مرت الأيام كالخيال احلام  و انطوت آمال (و بعيداً عن فهيمة) فقد كان الحال كذلك, تركت الحياة اسفيرياً لأعيش الواقع...بكل حجمه, و العلاقات الإجتماعية الواسعة بكل ثقلها و زادها أنني استقريت في مدينة تبعد عن العاصمة -7 ساعات- و  حتى في تلك المدينة ...سكنت في ريف ..حيث (السودان....الآخر او الكامل؟!), بغض النظر عن الظروف المادية الضاغطة و بغض النظر عن طموحات الشباب (المُدمرة) و التي أعلاها طموحاً و اقربها نطقاً و اسهلها إجادة في القول هي (دايرين نتخارج من البلد دي..نشوف لينا عقد برة) !
نعم...حيثُ اصبح (خارج السودان) هو الحل لجميع المشاكل, و السودان في حد ذاته مُشكلة...و الحكومة هي المرض الخبيث الذي يفتك بنا و سلامة عقولنا و مُسبب هجرتنا و مُجمل همنا و السبب في هواننا على الناس...و العياذ بالله !

تَشبعت بعبارات تُلبسنا ملابس الضحية-كشعب- و تضعنا في زنازين لا مخرج منها و لا مفر امام جلاد احكم اغلاق الباب علينا ووضع حولنا حرس في مُنشأة كُتب فيها (الوطن) على لوحة مُعلقة بخيط رفيع لأن سمسار من نوعا ما ...اوكلت له الحكومة مهمة (تظبيط منشآتنا)...فإستخسر فينا (مسمارا) يليق بلوحة الوطن !!

و شبعت حد التخمة ب(كلامات) موظفين حكوميين يجلسون في ظل عمارة عند -ست شاي- بعد (ساعة فطور) كاملة و تزيد نيفاً...يتحدثون عن مدى فساد علان و فلان و كيف أن الأجور لا توفيهم حقهم و هم ينسون او يتناسون كلمة (الإخلاص في العمل)...او حتى ابسط مباديء الذوق العام و يتركونك مُعلقاً امام مكاتبهم لساعات طوال ..كأنهم شُغلك الشاغل..ثم يُجرجرونك من مكتب لمكتب حتى يغفر الله ذنوبك بكثرة الإستغفار و حرارة الدعاء و التهليل عند تحقق الرجاء !

و تشبعت حد الغثيان بـحيوات اجتماعية  للبعض- تجبرك الظروف او الجيرة او القرابة او شبكة الحياة الإجتماعية- على النظر لها عن قرب حتى تكاد تفقد بصرك من كثرة الحملقة !!

فوصلت- و لا داعي للإستنتاج- إلى كآبة من نوع خاص...اخذت وقتها في الظهور رويداً رويداً حتى اصبحت المُحَكِم الذي يقود عقلي و تصرفاتي...فكان ان اصبحت اشعر بأنني قد دُفِنتُ بإيحاء من ساحر فودو افريقي حيةَ..لأستيقظ زومبي غاضب و خاضع لتغيرات مُناخات لا تتناسب معي...نعم هذا اقرب وصف يتبادر إلى ذهني عن تلك الفترة القريبة.
شعرت حينها بأنني قد أضعت صورة حلم كان في عقلي , و صورة وطن وضعت له اطاراً , و أضعت فوق هذا كله ووسط طبقات الواقع عبارة من برنامج تلفزيوني كنت قد اتخذتها شعاراً في حياة سابقة مفادها بأن "لا اضع توقعات عالية...حتى لا اصاب بصدمة"...

ووسط هذا و ذاك وحين كنت احاول التروي في افكاري و البُعد عن المنهج الإدريس جمَّاعي في ندب الحظ و اللطم على الخدود و الاعتقاد ب "إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه, ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه,صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه"...لم أخذ وقتي في الخروج من القوقعة بسلاسة او لم اُستمهل لأمُر بمراحل حُزنِ اربع...لأتفاجأ بأنني تُهت...مرة أخرى ..بطريقة مختلفة ...

أدركت حينها أنني كنت أصغر من ان ادرك بأن الحياة عبارة عن -باكيج- كامل و لا تأتي مُجزأة لنأخذ من هنا ما نريد و نترك ما تبقى...أدركت بأن مهما كان الذي يحدث أو الذي يُقرأ او يُسمع بأن الناس (وقت الحارة)....تتخذ بجانب بعضها صفوفاً لا لتقيم صلاة فحسب...بل لتُساعد ...لتبني...لتُصلح ...أناس ليس لهم ميول سياسي معين و لا يجلسون ليضعوا خارطة طريق للوصول إلى كنز او نفط...بل كل همهم هو المساعدة ...متمثلين في مجموعات شبابية تُقدم يد العون للأسر المحتاجة او لمن يمرون بضائقة ما...او يجمعون التبرعات لبناء مدرسة او مركز الخ...فأفكارهم للمساعدة لا تنضب!

حينها ادركت متأخرة ان (الشوف بالقلب) و أن الضائقات خُلِقت في هذا البلد لأجل التقريب...و أن هذا الضائقات سواء كانت اقتصادية او اجتماعية او سياسية...ما خُلقت الا لتجمعنا....

لا ادري.....بدأت في أخذ المواضيع بشكل آخر (قدر الإمكان) و بعيداً عن السوداوية التي تُعمي القلوب و بعيداً عن التفاؤل المُوصل للصدمات...تقبلت واقع أن العيش هنا عبارة عن مرور بطريق فيه من الصعاب ما يجعلك تلعن اختيارك للسير فيه و من الجمال ما يُنسيك نفسك و أين انت و من الغرابة ما يُدهشك و يدفعك للكتابة عن وضعك فيه بحيث تشَعُر فيه بأنك (اليس في بلاد العجائب) و لكن بغض النظر عن هذا كله و  الأرق و الحزن و ضعف المرتبات-فعلاً- و غلاء المعيشة....ما يجعلك تُحب هذا البلد و..بغض النظر عن حكومتة مُتخَبِطة الهُدى...



لم أكتب اليوم لأكتب...بل كتبت احتفالاً بخروجي من قوقعة ما...و احتفالاً بأنني اشعر بأنني صرت أكبر عقلاً...و اكثر حكمة ...و انا مُدرِكة تماماً بأنني غداً (كلما تقدم بي السن)...سأقف على حافة هذه التدوينة لأنظر ما خطيته...لأُدرك حينها أن عقلي لم ينضج إلى ذلك الوقت بشكل كافي !!

و في الأخير: سأخلـــص في عملي كما علمني ابواي ...سأخلص من أجل أن أُخلي مسؤوليتي من عدم المسؤولية الذي اصبح منُتشراً كداء خبيث....سأخلص -قبل هذا كله-و بغض النظر عن مفهوم البعض بأن (العمل على قدر الراتب)...لله...و من أجل السودان.

لأنني أحببته...و سأظل مخُلصة له...إلا في حالة تزوجت بشاب سوداني يسكن في السويد و يعمل مهندساً و....في تلك الحالة ..السودان الله معاهو شديييييد ....هممم امزح؟!

يللا ما علينا...كالعادة !

ابقوا عـــــــافية ...

ومضة: تعبت من الكتابة لأنني توقفت عنها طويلاً و اختزلت افكاري كثيراً (على غير العادة) و لكن ...سأجعل هذه التدوينة خاتمة لفترات قضت...و نبقى في الحاضر...لأجل المستقبل!!!