الاثنين، 8 يوليو 2013

عزيزي السودان ...سعيدة بمقابلتك (2) !

توجهنا  إلى القرية , و مرة أخرى لفتت نظري مزارع (حواشات) غالبيتها مزروعة بقصب السكر , ثم وصلنا إلى منزل جدتي (رحمها الله)  و توقفت سيارتنا امام المنزل ...المنزل الذي قضيت فيه ايام جميلة من حياتي ....المنزل الذي اعتدنا على زيارة جدتي الراحلة (فاطمة ابراهيم) فيه...و بالرغم من انني اعلم انها توفيت منذ عامين و ثلاثة أشهر إلا أن شيء ما بداخلي  كان ينتظر ان يراها واقفة على ذلك الباب الحديدي ....قطع دفق مشاعري تلك صوت إحدى خالاتي و التي استقبلتني بالأحضان و عزتني في وفاة جدتي ....لم أصدق تلك اللحظات ...كأن الامر برمته كان حلماً ....

ثم لا زلت ارى وجوهاً تركتها منذ زمن بعيد , تذكرت وجوه خالاتي اللائي كن يقفن على الممر الموصل إلى داخل (البيت الكبير) , و لا زالت الدموع تنهمر ...دموع حزن و دموع فرح ....امتزجت بطريقة غريبة لتخرج فقط كما خرجت ذلك اليوم ....

ثم قابلت الجيل اليافع من العائلة...الجيل الذي غادرت ولم يكن معظمه قد وفد إلى الحياة ...البعض كنت قد رأيت صورهم ...و البعض الآخر تعرفت عليه بالشبه ....و آخرون تم تعريفي بهم ....

جلست في (برندتنا) بعد ان اكملت السلام على خالاتي وبعض الصغار لأخذ نفس  من رحلة الـ (18) ساعة ...ابتداءً من لحظة خروجي من منزلنا في اليمن و حتى ساعة وصولنا للـبيت الكبير في قريتنا ...لم يكن هناك مجالاً إلا لِشرب ماء و بالرغم من تعبي الجسدي بسبب عدم الراحة و عدم حصولي على النوم لساعات طويلة جداً ...إلا أنه فيما كان يبدو أن ذلك اليوم كان في اوله ...على الاقل بالنسبة لي !!
تخلصت من الكعب العالي (الذي لا زلت اصر على ذكره) بعد ان سجلت رقماً قياسياً في ارتدائه , ثم ابتدأ (مسلسل السلام) ...بجملة حفظتها و لا زالت تتكرر ( يا معالي ....قالوا ليكي تعالي سلمي) ....و من كثرة سماعي لهذه الجملة ....و في كل لحظة اسمع فيها اسمي متمثلاً في (يا معالي) ...اردد مع القائل بنَفَس واحد ( قالوا ليكي تعالي سلمي) ...و كلمة (تعالي) كانت فعل (توجيه) للحوش في الخارج  ..
استمر الوضع على ما هو عليه ....البعض لم اتذكر وجوههم بتاتاً البتة , بينما احتفظت ذاكرتي الانتقائية ببعض الوجوه غير المتوقعة ..... و في أثناء السلام قابلتني بعض الجُمَل التي عمدت ذاكرتي على وضع خطوط تحتها ...مثل جملة ( ما شاء الله كبرتي ) ....يعني بالله غيبة لمدة 13 سنة ...المفروض احتفظ فيها بجسد تلك الفتاة التي غادرت في الـ 10 من عمرها ؟! ...على كدة حيكون عندي مشكلة في هرمون النمو !!
مممم ....ثم هناك نوع خاص جداً من جمليمكن تصنيفها تحت بند (اسئلة تعسفية) مثل :-  (عرفتيني؟؟!) و (متذكراني ولا نسيتيني؟؟؟) ........ وبالرغم من انني ملكة الاسئلة التعسفية ..إلا ان هذه الجمل (قضت على مستقبلي التعسفي) ...ليجيب صوت العقل الخافت ( اعفوني عليكم الله  من السؤال دا -_- )
ثم هناك لحظات اعترف فيها وبكامل ارادتي انني استخدمت فيها اسلوب الـ(غتاتة) و كمثال عندما سألني أحد الخيلان (جمع خال و كدة) ...عن  ( متذكرة يوم طبزتيني في عيني ؟؟) ...فأجبته بسرعة لا ...بالرغم من ان عقلي كان قد بدأ بإظهار خيوط تلك الحادثة....المؤسفة .
استمر السلام على الأهل الذين كان يتوافدون من المنازل المجاورة ...و كانت إحدى بنات خالتي تصر على الضحك علي و اخباري بأنني بعد انتهاء السلام سأحمل يدي بطريقة معينة و انا ...متألمة !!!
ثم و اثناء جلوسنا في الحوش و لا زال الاهل يتوافدون ....دخل (وافد) غريب ....خروف , خروف  الكرامة ...... (كرامة العودة ) إلى تراب الوطن  يجره اخواني .....كنت افكر تلك اللحظات (بـ  درامية) بأنني و ذلك الخروف من الاستحالة أن نعيش في نفس الوطن ....يعني باختصار ( يا انا يا هو في البلد دي ) ....
 جلسنا بعد فترة للغداء .....و يااا سلام على طعم (لحمة ) السودان ....نعم ...كان هذا تفكيري ....طعم اللحمة السودانية لا يضاهيه طعم ....استمتعنا بالغداء ....و كانت متعتي بالغداء أكبر عندما أخبرتني إبنة خالتي بأن اليوم يشبه ايام العيد ....لأن الاهل مجتمعين ....ياااه ....ما الذي قد يسر الخاطر اكثر من سماع عبارة تشبه هذه ؟! ....حسناً ...ربما طعم (لحمة) السودان .
الغريب أن احدهم اخبرني بأنني اكل بـ (يدي) الاثنتين ....حسناً لم اكن اشعر بأنني ادمر برستيجي بأي طريقة ...إلا حينما جلسنا على (صينية) الغداء في اليوم الثاني حينما سألتني  إحدى بنات خالاتي سؤالاً تحت البند (تعسفي مستفز) قائلةً : (ليه ما بتاكلي بيدينك الاتنين زي امباارح ) ...!!!
على العموم : اساساً دا ما استايلي  ...كنت جائعة و الضرورة تبيح المحظورات ...و الجوع يدمر البرستيج (-_-) ... و بارك الله فيمن نسي و تغاضى و عمل روحه ما شايف يا هناية (-_-) .
 نرجع لليوم الاول ....اكتمل ذلك اليوم ...لا ادري كيف ...و لم احفظ من وجوه الاشخاص الذين اتوا للسلام علي ....إلا من كنت احفظ اسمائهم او وجوههم سلفاً ....
 جاء وقت النوم ....لم اصدق ....نعم ما احلى السرير بعد سكة السفر و السلام الطويلة هذه ....لا اتذكر أنني حلمت تلك الليلة بشيء ...كان شعوراً يشبه تحقيق طموح كبير ... كأن اللقاء بـالبيت الكبير و العائلة لم يكن ليكون اروع ....
استيقظت يوم السبت ....و كأن الحال لا زال كما هو ....المزيد من المُحَمِدين على سلامتنا ....البعض في المطبخ , البعض ينظف ...حاولت جاهدة أن (اتحشر) داخل ذلك البرنامج لألغي من بعض العقول فكرة أنني (ضيفة) ...إلا أن ذلك لم يشفع ....لي !!
 بقدوم المساء بدأ البعض في مغادرة المنزل لأن الأحد (اليوم التالي) كان اول يوم دوام , تركوا المنزل خفيفاً جداً ...
جاء يوم الاحد و لأن المنزل كان خالياً من طلاب المدارس و المداومين.. كنت قد قررت استلام مهامي في تنظيف المنزل لمساعدة والدتي و خالتي , و كان لي ذلك ...تعرفت خلال ذلك اليوم على (مصنع التراب) ...و هو بالتقريب لقب يجوز اطلاقه على كل منزل في السودان ...لأنك ( لو كنست الان و جيت تكنس بعد دقيقتين ...حيطلع معاك تراب....من حيث لا تحتسب ) !!!
قابلني في اول غرفة اقرر تنظيفها كائن حي ...حرمتني ظروف الغربة من (مزاحمته) في بيئته الطبيعية ...كان هذا الكائن هو الثعبان ( الدبيب) و الذي و بفطرتي السودانية تجنبت وقوفه بجانبي بالقفز و بكل هدوء و قمت بمناداة الوالدة وانا انظر لمكانه و اخبرتها بأن (في دبيب في الغرفة دي ) ...ذًهلت والدتي لأنهم (حسب تصريحاتهم) ما شافوا دبيب في البيت دا من زمن طويل ....و بالتقريب كان المقصود من وراء العبارة  ( انتي جيتي بي دبايبك ) (-_-) ....لا يهم ...احمد الله على إن (بطني ما فيها حُرقُص)....
اعتقد و بعد ان ان قضيت الان في السودان فترة (شهر الا كم يوم) بأن ذلك الثعبان كان (إشارة) ...ربما كان معناها ( ما تبدي تكنسي من الليلة....الراجيك كتير...اعملي مغتربة و كدة  )....المهم ....اكملت ذلك اليوم من النظافة الشاقة ...و جاء يوم الثلاثاء ..وقمت بتنظيف المنزل لافاجأ بـ (ثعبان) آخر ....كان ميتاً نتيجة لحادث (عفصة بالباب) من احد المارة ..... قررت حينها ان اخرج عن صمتي و اعبر عن مخاوفي بالقول ( يوم الاحد طلع لي دبيب ...يوم الاتنين ما طلع ...يوم الثلاثاء طلع لي واحد ميت ....يوم الخميس اتوقع واحد ولا كيف ؟!)
كان ذلك الثعبان غيض من فيض فيما يخص الكائنات الحية المتوفرة في حلفا ...او ربما في السودان بشكل عام .....فهناك الضببة ( جمع ضب)  متوفرة و بأحجام مختلفة , ثم هناك الـفئران ...و هي ليست فئران (بني آدمية)  طبيعية ...بل هي فئران تشبه غضب الطبيعة فئران الـ (جِقِر) ..أعتقد ان هذا اسمها ....ثم هناك الجنادب (الصراصير) و السحالي ( ممكن تكون ضب صغيرون ؟! ...ممكن) ... ثم الذباب بأشكاله الموسمية المختلفة ....ثم في الليل حيث حفيف الاشجار و (سيمفونية الضفادع) ...(قاااق قااااق ....قاااااق ...قااااااق ....إلى آخر الليل ) ....
ثم هناك العقارب و التي لم ارها حتى الان....ثم العناكب ....ثم (ابو الزنان) و ...النمل الاسود ( الذي كنت احسبه في الجاهلية الاولى نمل طيب ...كنت احرص على حياته ) ...حتى جاء ذلك اليوم الذي سألت فيه احدى بنات خالاتي بعد ان نصحتني برفع أرجلي عن الارض ( يعني النمل دا بيعضي ؟! ...فاجابتني : لا بيكلكل(-_-) ...على العموم....جربت في يوم آخر  عضة النملة السوداء ...و ليس في اليد غير قول (حسبي الله و نعم الوكيل) ....و (البعوض) ...و هل يخفى البعوض ....ثم هناك (ابو المقص) ...و ....حسناً احتاج لموسوعة كائنات حية لحصر هذه المخلوقات !!!

بعد ان مضى الان شهر (إلا كم يوم) ...و بعد ان رأيت ثعبانين و تعرضت للعض من النمل الاسود  بالاضافة لكائن خرافي آخر كانت طعنته تشبه طعنة ابرة الحقنة.. و ضايقني الذباب في نومي  ...و بعد ان صرت أنظر إلى قدمي و لا اعرف تفاصيلها (بسبب التراب) ...و بعد ان ضربتني الشمس و تركت آثارها على جسدي و وجهي ....و بعد ان عانيت الامرين من تغيير الجو متمثلاً ذلك في حبوب على الوجه لم يسبق لها مثيل ....و ....حسناً ....هل يجوز إطلاق لقب مواطنة سودانية علي ؟ مع العلم انني احمل الجنسية السودانية منذ العام 2006م ...؟!

على هامش جانبي :-
أعتقد ان جورج اورويل كان محقاً حينما قال : "لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتميترات مربعة في الجمجمة" ...
حسناً لا تذهبوا بعيداً ...ف الكلام هنا عن (الكائنات الحية و توفرها في السودان) فما من حفرة على الارض او الحائط او تراب او حتى (بلاط) إلا و فيها كائن حي !
نكمل في الجزء الثالث ...دمتم بود ..