السبت، 3 نوفمبر 2018

على هوامش النسيان


" ما نسيتك ما جفيتك، مافي زول شاغلني عنك" 

كم وددت  أن أجيب قاطني دائرة علاقاتي التي تتوسع بإطراد يفوق زيادة الأسعار في اسواقنا المحلية- بهكذا جواب او شيء قريب من (انت انت بتتنسي؟ ما أنت روحنا و دمنا..الخ). 
فالحقيقة الوحيدة التي لا مهرب منها  أنني..انسى و انسى كأنهم لم يكونوا (شخصا ولا اسما..ثم انسى).

فأذرع النسيان  تخنقني بقبضة حديدية، و تتوغل في ذاكرتي أكثر من توغل الإنقاذ في المستنقع السوداني و على كرسي الحكم و في مفاصل الدولة و مصالحها...بل إن جهودي القليلة (قبل أن تصبح محاولات المقاومة للنسيان = صفر) منيت بفشل ذريع فاق فشل الحكومة (ما ورانا غيرها) في مكافحة المسكيت، و الفساد، و القطط السمان، و تهريب السلع و ضبط الأسعار ،و......كل ما فشلت فيه الحكومة المجيدة - اعزها الله و بسط في رزقها- و جهودها الفاشلة لا تعد ولا تحصى..

أصبح النسيان ملازما لي حتى أن مصطلح (زهايمر) أينما حل تحسست الريشة التي على رأسي، بعد أن تحولت لشاهدة بجدارة على أجزاء من ذاكرتي أحسبها -إحسانا في الظن- كانت موجودة فذهبت ادراج الريح وخلفت ثقبا اسود، حتى أن الشك توقف عندي عن (التسلل) و صار في قلبي مقيم:-  بأن عقلي استمع ذات مرة لنصيحة فنان  نصحه ب(قالوا لي أنساه و امسح من خيالك ذكرياته و امسح كل الماضي و ابعد عن طريقه و عن حياته.) فا(انداحت ) ذاكرتي فمسحت تلقائيا كمية اشياء أخرى في الطريق إلى مهمة عويصة. 

و رغم الحالة النفسية السيئة التي توزع مجانا مع باكتات الذاكرة التي تفرغ بإستمرار ، خاصة حينما تمسح معلومات و اسماء اشخاص  لصيقين تراهم بشكل شبه يومي، لتشعر في وقت الحاجة  بأن الأسم يدور في فضاء عقلك...بل و تراه فهو يقترب و تكاد تمسه حتى..حتى....يختفي كظلك في الظلام الدامس، تاركا في ملامحك ذهولا لا يوصف...و في الشخص الذي امامك...ملامح لن تعبر عنها لوحات الإسباني (روبن ادورنا) بكل واقعيتها و تركيزها على التفاصيل. 
و رغم هذا الجانب المظلم ،فللأمر جانب مشرق- و الجمال في عين الرائي فقط- فإن بحثا من جامعة تورنتو الكندية  نشر على موقع نيورون مفاده أن النسيان أو غياب الوعي علامة "ذكاء؟!" لأنه يعني أن المخ بنسيانه لتفاصيل "غير هامة" ،يركز على الأشياء الهامة بل إن البحث ذهب لأبعد من ذلك حين جعل النسيان عملية مهمة لعمليات اتخاذ قرارات هامة و ذكية!!  

و رغم هذه المعلومة او الدراسات الأخرى التي تجعل من النسيان نتيجة حتمية لدخول معلومات جديدة او تطلق على بعض أسباب النسيان نظريات مثل (نظرية فشل الإسترجاع) التي تفيد بأن كل ما يدخل في الذاكرة طويلة المدى، يبقى حبيسها ويصعب إخراجه بسهولة ، فإن هذه النظريات تضعني في ازمة من نوع آخر، فمثلا لماذا لا تختار الذاكرة  أن تسجل المعلومات الجديدة على الكم الهائل من المعلومات التافهة التي املكها او على  بعض الأغنيات او مقاطع من مسرحياتي الكوميدية المفضلة التي استطيع غيبا تسميعها او مشهد ل(جيم كاري) او عبارة ل(كريس روك) في استاند اب كوميدي شو،  او مواقف ليس لها لون أو طعم ولن تفيدني إلا بقدر ما يفيد السراب ظمآنا؟! 

ثم أنني افند - كزول ليهو قيمة - نظرية أن النسيان  يطآل الذكريات (غير الهامة)؟ فكيف تكون كمية معلوماتي الدوائية أو أسماء أشخاص مقربين، او كتب قرأتها و استفدت منها او توصيات جيراني   لإحضار دواء من الرفوف حولي...معلومة غير هامة؟ كيف يصنف المخ هذه الأشياء؟! على أي اساس؟! و في هذه النقطة بالذات (وصايا الجيران) و بعد أن يظهر فشلي ك(عاملة دليفري دوائية) و بعد أن تمر أحيانا أكثر من 72 ساعة على الوصية فإنني بعد الاستعانة بمنبه هاتفي لتذكيري بالحاح...أقرر أن (النسيان ليس شكلا من اشكال الحرية) كما قال جبران بل...اداة جاذبة ل(اللوم) و (التحسس) و (الشك في مصداقيتك) و وصمك (بالكعابة) ربما...و دراسات كهذه-السابق ذكرها-  قد تزيد طين رصيدنا السيء بلة. 


بعض نماذج للنسيان:- 

# في الجامعة و التي شهدت بدايات التدهور الفعلي الملحوظ للذاكرة- نبهني والدي بضرورة الحفاظ على بطاقتي الجامعية  من الضياع بسبب توقفنا عن الدراسة نظرا للوضع السياسي و الأمني في البلد، فقررت أن اخرج البطاقة من حقيبتي بغرض (ايجاد ملجأ مناسب لها؟)، فقمت بوضعها تحت المرتبة، ثم غيرت وجهة حفظها، فنقلتها إلى تحت (السجادة؟!) فقررت أنه مكان غير مناسب، فبإمكان كائن حي حاقد أن (يجهجه باكاتي) بأن يقضمها او يجرها وغيره....ووسط هذه الهواجس قررت نقلها إلى مثواها الأخير...الذي و بحمد الله منذ ذلك العام و حتى الآن (حوالي ثمانية اعوام) لم اتذكر أين هي تحديدا!! (وبعد كثير من بحث غير مجد..وجدت أن استخراج بطاقة جديدة عملي أكثر فكان لي ذلك). 

# و في مرة -من مرات كثيرة ذات طعم مر-نسيت نقل وصية هامة لأمي كانت تتعلق بنقل أحد المرضى للأردن  كعادتي، حتى بعد أكثر من 10 ايام حين مناقشة ما لموضوع ما (ساقت الآهة الآهة في سكة عجيبة و تواهة) فأوقفتني كالصنم، او ك(الزول الذي صبت فيه مطرة؟)* عن الكلام،و حين أخبرت والدتي أخبرتني بأن الخبر وصلها من مصدره،وأن المريض قد سافر بل قابل الطبيب و على وشك العودة،فخرجت محلولة عقدة من اللوم و دخلت في اثبات مطلق بأنني (غير جديرة بنقل الوصايا)..بل و حصلت على لقب (ماسورة)، والحمدلله على ما اراد. 

# طبعا، نسيان المعلومات الطبية حدث ولا حرج، تجاوزته بمسافة تقارب بعد الأرض عنالشمس،
فوصلت في المرحلة الأخيرة قبل اسبوعين للأساسيات (و هي نسيان اسماء العلاجات البديهية والتي في ارفف مخي بديهية بدرجة بندول)،فأستلمت للصرف روشتة من محتوياتها (Domperidone) فأخبرت المريضة بأن العلاج المعني (مقصوص الرقبة)..قد انقطع لدينا منذ ثلاثة اشهر..!!!! ليستمر الحوار فأتجه للرف لغرض آخر  فأجد معظم شركات الدواء بأسمائه التجارية متوفر لدينا! فعدت ادراجي محاولة التصرف بشكل عادي بإنه (هي!! الدواء لقيتو في بالمناسبة!!)..كأنه جازف طريقه واقعا من السماء لحظيا،فإذا بالمريضة تلتزم الصمت لتغني عيونها (اعااااين بي عيوني و مااا بشكي لي غيرك..و بعاين بي عيوني) وفي محاولات سيطرتي على أزمة الثقة بين البلدين أدعيت  التماسك ولملمت كرامتي المهنية المبعثرة كمحترفة بإلإقرار  بإصابتي بالنسيان الحاد من كثرة المشاغل؟....عله يشفع.  

# *اجتماعيا و عرفيا*، تجاوزت  الحد المسموح به لعدد مرات النسيان و كلمة (واااي!! نسيت) و (ضربة اليد للرأس عند تذكري المتأخر) ، فصرت انسى تواريخ الميلاد (اتذكر الأبراج فقط حتى كتابة هذه السطور!)، أسماء البشر، كلمات سر حساباتي على الشبكة العنكبوتية و التي اصبحت أغيرها في الشهر أكثر من مرة أحيانا..بل ان بعض الحسابات  تغلق أبوابها في وجهي لأنني نسيت كلمة مرورها، و نسيت الإيميل الذي سجلت به و نسيت كلمة سره إذا ذكرته، وأنسى (عمنا ده انا شايفاهو وين؟) لتكون نهاية هذا الفيلم الهندي (ابو علانة صحبتي)، و أنسى مواعيد دعوات الزواج، و في غالب الأحيان اتذكرها بعد مرور اسبوع و نيف، وانسى مكان وجودي في لحظة ما،انسى معظم المعلومات التي افهمها واحفظها جيدا في احيانا أخرى، انسى أن ارجع لرقم ما اتصل في لحظة انشغال، انسى أن احدهم سلمني امانة قبل ساعة و حين يأتي مطالبا بها يصيبه الشك بأنني نصابة لعدم قدرتي على التجميع..حتى يشملني الله برحمته فأتذكر،  انسى غالبية الأشياء  إلا و على طريقة عبلة كامل في  فيلم "اللمبي" :-  (نسيت تاكل؟ نسيت تشرب؟ نسيت تنكد على  امك؟ نسيت تحرق دم ابوك؟)..تستثنى هذه من القاعدة. 

# نظرة للحل:- 
احاول ان اقنع نفسي بأن السبب هو كثرة الانشغال...ففي لحظة اؤمن بأن(الكتابة هي الحل)..فأشرع في كتابة  قائمة بالأشياء التي اود شرائها او تلك التي اود انجازها ليوم معين...فأرجع ببساطة ناسية تلك الأشياء بسبب نسياني للنظر في القائمة.

طرقت كثيرا من ابواب حلول متاحة لحل مشكلتي في محاولة لترميم ذاكرتي او ايقاف تدهورها،  منها ممارسة تمارين لتحسين الذاكرة، تناول حبوب معينة، محاولات (فالصو) للتركيز الشديد  منها  تصغير حجم العين(تركيزا) بل واغماضها امعانا في التركيز..بل حتى التحايل على المخ بإعطائه حجما كبيرا للشيء المراد تذكيره به،ليتجاهلني كموظف سوداني في معاملات ورقية عقيمة..كأنني غير موجودة اصلا، حتى باب (التكرار) في محاولات لحبس المعلومة طرقته..عدا عن بعض مرات نسياني لممارسته أحيانا..

و في حين أنني أنسى ما يرغب مني تذكره فإنني أذكر جيدا ما يطلب مني نسيانه..نموذج آخر:- 

جاء شاب للصيدلية للمرة الأولى و سأل عن صاحبها، أخبرته أنه لم يحضر بعد..وعدني بالقدوم بعد ساعة، نسيت الموقف، فحضر بعد ساعة للمرة الثانية و كنت قد نسيت ملامحه، فأخبرته أن (السيد علان لم يحضر بعد)، فأقترب بهدوء من الكاونتر...و قال بصوت.منخفض: (ممكن أطلب منك طلب؟) ، اتفضل؟ (الزول ده لو جاء...ما تجيبي ليهو سيرة إني جيت سألت عنو!)..دق ناقوس الخطر في عقلي، فتخيلته (مجرم من نوع خاص) و شخص مثير للريبة...فقررت أن (اركز)..فحفظت ملامحه بطريقة عجيبة، لون قميصه و البنطال، الشنطة التي يلبسها، اللهجة التي تحدث بها، طريقة حلاقة شعره، ماركة الموتر الذي يسوقه، و (لوحته!)....و ما ان قدم ابن صاحب الصيدلية الا و أخبرته بقدوم شخص مريب أتى مرتين و وصفت له ملامحه بالتفصيل الممل كأنني أصفه لرسام الشرطة...ثم سألته لإيضاح سبب المخاوف: (ما يكون عندكم تار مع زول بس؟! انا ما عندي رغبة اكون شاهدة على جريمة!)..خرجت عند نهاية دوامي...و بعد مرور حوالي اسبوع قابلت الشاب المثير للريبة في الشارع، فأوقفني ضاحكا: يا دكتورة انا مش قولتلك ما تقوليلو إني جيتو مرتين؟! فأخبرته بمخاوفي فضحك طويلا ل(يفطمني) على سبب(غموضه المزعوم) و هو أنه يعمل على تجميع (الأقساط) الخاصة بتجارة ما، و (على سبيل اللطافة)..لا يريد أن يشعر التجار بأنه (يلح الحاحا) في الطلب و يعود مرارا و تكرارا...و هي الخطة التي افشلتها بإفشائي لسره حينها! 
فقط لو أنه اكتفى بالسؤال و خرج..لم اكن لأذكره حتى بجلسات تنويم مغناطيسي!. 

يبدو أن هذا النوع من الأوامر مع بعض البهارات العقلية..قد تساعدني في حل المشكلة! 

و تبقى (واذكر ربك اذا نسيت)..هي النصيحة الأفضل التي ساعدتني كثيرا..و الحمدلله على ما تبقى من فتات الذاكرة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق