الخميس، 25 أكتوبر 2012

تلودي ...العيد الثاني .

غداً سيكون أول أيام عيد الأضحى المبارك ...أعاده الله باليمن والبركات ...وغداً أيضاً ستنكأ جراحات البعض ممن فقدوا أحبائهم قبل شهرين في أول أيام عيد الفطر المبارك عند تحطم طائرة تقل وفداً رسمياً إلى ولاية جنوب كردفان السودانية ....وبما أن الحادثة قريبة جداً كأنها حدثت بالأمس القريب فأنا أتذكر أنني رأيت كما شاهد الملايين مثلي في السودان أو خارجه تلك الفاجعة ، وأحسست بجزء قليل جداً مما سيعانيه أهل هؤلاء الذين قضوا ، لأنني أعلم أن اليوم كان يوم عيد ....كنت أتخيل للحظات كيف سيكون حال أهل هؤلاء وهم في أتم الاستعدادات في انتظار لمة الأهل  وقدوم الجيران ليفاجئوا حينها بالخبر المفزع ...وقفت أشاهد التلفاز على حيرة من أمري أو حزن وربما خليط من المشاعر اجتاحتني .... فكرت حينها أن لا أحد أعرفه من ركاب هذه الطائرة ..أو هكذا حسبت  !!!!
أكملت حياتي كما هو متوقع ...قررنا أن نخرج في اليوم الثالث من أيام العيد لزيارة أصدقاء لنا يسكنون في حي الحصبة ....وكان المفترض أن يتضمن المشوار منازل عدد من أصدقاءنا الذين يقطنون في تلك المنطقة ...إلا أننا غيرنا رأينا في باديء  الأمر وقررنا الاكتفاء بزيارة بيت واحد فقط لأن أخي أتصل علينا ليخبر بأن صديق والدي قادم هو وأسرته في زيارة لنا ...حسمنا أمرنا على أمل العودة لهؤلاء الذين ظننا أن الوقت لن يسعفنا لزيارتهم بسبب هذه الظروف الطارئة.....إلا أننا تفاجئنا عند الحديث مع عائلة العم سامي ...بالخبر الذي لم يكن في الحسبان ..فعندما  أخبرهم والدي بأننا لن نبقى طويلاً ، اعتقدوا هم بأن ذلك يرجع إلى أننا نرغب في زيارة منزل العم عبد الله  لأن أحد أفراد عائلة زوجته كان ممن قضوا في  طائرة تلودي ....كانت هذه بداية الصدمة ....ليفكر بعدها الوالد وفي جدية تامة بضرورة ذهابنا للعزاء .
خرجنا قبل الوقت المحدد لخروجنا من منزل العم سامي ...واتجهنا لمنزل العم عبد الله ...سلمنا على من في المنزل ...أخبرني والدي عند الباب بأن الشهيد هو "أخ " زوجة العم عبد الله .....فعلاً دخلت المنزل وقابلت زوجة العم عبد الله ...واحتضنتها طويلاً ، تربطني بهذه العائلة علاقة مميزة جداً ، لهذا كنت أحس فعلاً أن من فقد هو من عائلتي ، ففي الأيام التي وصل فيها القتال في منطقة الحصبة أوجه ....جاءت عائلة العم عبد الله لتقضي عندنا وقتاً حتى تهدأ الأوضاع قليلاً، توطدت علاقتي بهذه العائلة في هذا الوقت ...أحببتهم وأحببت تلقائيتهم وتواضعهم وأحسست خلال دقائق معدودة بأنني مع عائلتي حقاً ، أعجبتني والدة زوجة العم عبد الله كثيراً ...ذكرتني بجدتي ...وكنت أناديها جدتي ...هذه المرأة صنفتها من ضمن أكثر الشخصيات التي قابلتها في حياتي تميزاً ...كانت مثقفة لدرجة لم أتخيلها ...و الحديث معها ينساب من غير جهد يذكر ...كانت نوعي المفضل من البشر ممن جمعوا في طيات أرواحهم ما بين عمق روحي خلاب وثقافة فكرية تشعر بأنها تخترق روحك وعقلك لتجلس معها مستمتعا بكل الحديث ....أخبرتني عن ثقافة منطقتهم في السودان ولم تكتف بالثقافة من الناحية الأثرية بل امتدت لتشمل أبيات شعرية كانت تحفظها جدتي الغالية ....كنت أستمع لها باهتمام بالغ ...فالحديث معها لا يكل ولا يمل ...وانقضت تلك الأيام وسافرت الجدة إلى السودان وكم كنت أحبها واحترمها ...لهذا كان أول ما فكرت به عند علمي بوفاة ولدها هو ...هي !!!!
تمالكت دموعي عندما سلمت على أخته التي كانت تبكي كثيراً ...خانتني الكلمات ...فكل ما يقال هنا سيكون غير ذا معنى ...لن يرجع أحداً ولن يصلح أمراً كان مقضياً ...كانت كلمات الرضا بالقضاء والقدر  تنساب من فم أخته .....هدأت قليلاً لتحدثني عن أخوها "إسماعيل "......كانت تتحدث وتنساب الدموع على خديها من غير جهد ....أخبرتني عن نشأته وكانت تخبرني بأن كل شيء في حياة إسماعيل كان سريعاً ..سريعاً جداً ....قالت لي أن والدتها كانت دائماً ما تقول أن إسماعيل حتى وهو في أحشائها كان يتحرك بسرعة ...فهو لم يكن مثل البقية في شيء .....كان أصغر إخوته ...إسماعيل  لهؤلاء الذين لا يعرفونه هو مصور قناة السودان وكان مرافقاً لعبد الحي الربيع مراسل قناة السودان المتميز والذي انتقل معه إلى التلفزيون القومي في نفس الوقت ..
أخبرتني  أخته بأن إسماعيل ترك الدراسة مبكراً واتبع شغفه وهو التصوير ...كان مصراً أن يصبح مصوراً ...ونجح في ذلك وعمل في تلفزيون منطقته المحلي ...ثم بعد ذلك قامت قناة السودان بطلبه ووظفته ...ولم يكمل في وظيفته الجديدة هذه غير ثلاث أشهر او أقل ...ليسترد بعدها الله أمانته .
حكت لي كثيراً عنه......مواقفه وعن أسرته الصغيرة...وعن كيف أنه نجا من قبل من تحطم طائرة من غير حتى أن يُخدش ....ثم توالت كلماتها عنه...وبعدها أخبرتني بأنها كتبت فيه قصيدة ...قالت لي "لست بشاعرة ...ولكني مسكت قلمي من دون أن أشعر ...لأجد نفسي كتبت ما كتبت "

قرأت لي كلماتها ...عندها لم أستطع حبس دموعي ..بكيت  من دون صوت ...أكملت هي 
قصيدتها ...ثم صمتنا قليلاً كانت تحتسبه عند الله ..كنت أشعر بحبها له ، وأشعر من 
كلماتها بألمها من فقدانه .
توافدت بعض النسوة لتقديم العزاء ، ولكن أغلبهن كُن من جاراتها اللائي علمن منذ اليوم 
الأول بالحادثة وأتين لأن اليوم الثالث كان هو اليوم المقرر أن يتم فيه قراءة القرآن على روح الفقيد .

أخبرتني بعدها باللحظات التي سمعت فيها الخبر ..على التلفزيون وهي ذاتها لم تعتقد 

للحظة أن "الفقيد " كان من ضمن  من كانوا على متن "الانتنوف " هذه ..ذهبت لجارتها 

وهي زوجة العم محمود والتي تسكن في نفس العمارة ونفس الطابق ويفصلهم عن بعض 

مسافة متر بالتقريب ...وهم من نفس المنطقة في السودان ...لتفاجأ بعدها بأن خال زوجة 

العم محمود هو أيضاً ممن كانوا على متن الطائرة ..لتقوم بعدها بمواساة جارتها وهي غير 

مدركة لما ينتظرها ..وما هي إلا لحظات أغفلت عن التلفاز حتى تم إذاعة أسماء شهداء 

تلودي وكان من ضمنها اسم إسماعيل عبد الرحيم ..لتبدأ بعدها رحلة القلق الشديدة 

ومحاولة الاتصال بالأهل في السودان وكانت كل الطرق مسدودة فجميع التلفونات مغلقة 

والبعض لا يرد على المكالمات بدأت حينها تحس وبقوة بأن أخاها ...قضى نحبه ...حتى 

علمت بالخبر اليقين ...لتبدأ بعدها رحلة أخرى ..

أكملت كلامي معها وذهبت لجارتها وأعز صديقاتها زوجة العم محمود لأعزيها في وفاة 
خالها ....

كان اليوم حزيناً بمجمله ...وقفت مع من أتين للمساعدة في إكمال ذلك اليوم من جاراتها 

وساعدتهن قليلاً في المطبخ ...قبل أن أغادر  ذلك المنزل ....

كنت وما زلت دائما أتعجب ...هل كان خال "زوجة العم محمود " وهو لواء في الجيش و 

أخ "زوجة العم عبد الله " على علم بأن هاتان الاثنتان تعرفان بعضهما بعضاً ؟؟ لا أعتقد 

ذلك ....وليست مجرد معرفة بل يشاء القدر أن تكونا جارتين وأعز صديقتين ويفقدان 

أحباء لهما وفي نفس الوقت وعلى متن نفس الطائرة ...سبحان الله !!!!!!

وقبل أن أكمل ...تذكرت شيء قالته لي زوجة عمي عبد الله عن أخيها إسماعيل ....أخبرتني 

بأنها في يوم من الأيام كانت تنتظر إيميل إسماعيل ...وأرسله لها عبر الجوال ...لكنها لم 

تستطع التأكد من العنوان  ....وكان عنوان ايميله هو "كارثة " !!!!

اخبرتني بأنها كانت مستعجبة من الاسم وأن قلبها أنقبض وأخبرت اسماعيل للتأكد .."هل 

هذا الاسم هو حقاً "كارثة " ...فضحك هو وأجابها ...نعم !!!!

رحم الله كل شهداء طائرة تلودي وكل ضحايا ما يعرف زوراً ب"الطيران السوداني " 

وتقبلهم الله بواسع رحمته ...والهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان ..وإنا لله وإنا إليه 

راجعون .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق